تقديم التقرير بقلم: هيثم مناع
المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان
تفتح الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين في هذا السفر التوثيقي، واحدا من أهم ملفات انتهاكات حقوق الإنسان في ظل السلطة التسلطية، هذا الملف الذي يأخذ تسميات عديدة وفق البلدان والقوانين، يرصد، وبنفس المنهج الذي عودتنا عليه الجمعية في تقاريرها وإصداراتها السابقة حول المساجين السياسيين، ظاهرة لم تأخذ حقها بعد في الأدبيات العربية وتقارير المنظمات الدولية اسمها القانوني “المراقبة الإدارية”، وتسميتها الأكثر شيوعا “الملاحقة الأمنية”، ومع ثورة المعلوماتية صار يستعار لها مصطلح “السجن الإفتراضي”. بوصفها التعبير الحقوقي عن الضغوط المادية والمعنوية التي تشمل كل مظاهر النشاطات التعليمية والمهنية والعائلية والطقوسية والترفيهية والثقافية للأفراد. واضعة إياها تحت كابوس الضغط المزمن، كوسيلة لتحطيم إرادة الأشخاص ومقاومتهم المدنية وقدرتهم على المبادرة، لضرب الحرص الإنساني على المشاركة في صنع الحياة والمستقبل في جدلية الذات والمجتمع، خارج فكرة العزوف عن الشأن العام والإنطواء على الذات والبحث عن وسائل ذاتية للتدجين والطاعة والخلاص الفردي المقبول أمنيا.
يبدأ هذا البحث ببحث تاريخي حول أصول المراقبة الإدارية في الحقبة الإستعمارية، عبر تحليل الوسائل الاستعمارية لكسر عزيمة المقاومة وحركات التحرر الوطني، ويوضح كيف جاءت الرقابة الإدارية كوسيلة التفاف على الحركة المدنية الأوربية التي ناضلت من أجل سلامة النفس والجسد ومقاومة التعذيب كشكل جديد للعسف والقمع. وسيلة يصفها تقرير المقيم العام إلى الخارجية الفرنسية بالقول: “منع الناشطين والمشاغبين من لعب دور القيادة ودفعهم للندم وإعلان التوبة، وذلك عن طريق تثبيط عزائمهم..، هم أحرار بلا شكّ لكنهم في الوقت ذاته لا يعملون شيئاً، ولا دخل مادي لهم ودون مشاغل، يعيشون الوحدة والعزلة ويخافون من النسيان، يخافون أن يتنكّروا لهم، لذلك يصبحون مستعدين لكل التنازلات حتى ينالوا حريتهم المفقودة”[1]. ثم ينتقل للتوصيف العام والخاص للظاهرة عبر تناول الأنموذج التونسي بعد الاستقلال، مراحله المختلفة، سماته ومعالمه الأساسية.
رغم أن اسمها “المراقبة الإدارية” يوحي بكونها مراقبة تقع في إطار القانون وباسمه، إلا أنها في الجمهورية التونسية، كما يوضح هذا التقرير بدقة، تأخذ ثلاث صفات: العسف في القانون، العسف في استخدام القانون، والعسف الخارج عن القانون. وهي تجمع بين الحداثة الأمنية عبر ما اكتسبته أجهزة البوليس التونسية من خبرات من البوليس العلمي الفرنسي وغيره، كذلك ثمة “مبتكرات” محلية بغاية الإزعاج والتصرف الكيدي وفرض الخناق وإعطاء الإنطباع الدائم بالحضور الكلاني للسلطان في وجود الإنسان.
من المفيد أن يقرأ المرء في تقرير لحقوق الإنسان: “من الواضح لدينا في الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين أن النظام الحاكم كان “عادلا ” في توزيع القمع والإضطهاد على كل العائلات السياسية وكل مكونات الطيف الفكري والإيديولوجي في البلاد فطالت المحاكمات العروبيين واليساريين فضلا عن ضحايا لصراعات وتصفيات سياسية بإخراج قضائي داخل السلطة ذاتها، وما الحضور الطاغي لتفاصيل اضطهاد المساجين السياسيين الإسلاميين المسرحين إلا لأن المعاناة متواصلة والمظالم مستمرة”. لقد استوقفني هذا المقطع وعاد بي إلى بداية مغامرة الدفاع عن حقوق الإنسان قبل ثلاثين عاما ونيف، كنت أعد أطروحة في الأنثروبولوجيا، وسمعت وقتها عالم الإثنولوجيا جورج بالاندييه يتحدث عن العلاقة القائمة على التقدير والإهتمام والاحترام لحالة الدراسة الأنثروبولوجية، ومنذ ذاك الوقت وأنا أنظر لكل ضحية أو معتقل أو ملاحق نظرة أخرى تنطلق، ليس فقط من الإنتماء لهذا الإنسان المكرم في ذاته كإنسان، وإنما أيضا من الغنى المعرفي الذي تحمله كل تجربة دفاع عن مناضل أو ضحية. ولعل من خصائل هذا البحث الموجع في موضوعه وتفاصيله، قدرته على خلق حالة تعاطف وجدانية مع الضحايا، بغض النظر عن انتمائهم، والتدريب على فكرة أن الإنسان في تعريفه الأول إنسانا قبل أية صبغة أخرى، وبوصفه كذلك، فهو يستحق منا كرم الاحترام وكرامة الإنسانية، أي أن نكتشف ونحن نقرأ في معاناته، كل تلك الخصائل الجميلة التي يجتمع عليها الجنس البشري عندما يلتزم بقيمة عليا أو مبدأ أو منهج إصلاح. وأظن أن معظم من سيقرأ هذا التقرير، سيحتفظ في زاوية من ذاكرته باسم عبد الرزاق بربرية ومحمد علي فداي ولطفي بن عمارة العميري الذين قضوا ضحية المراقبة الإدارية عندما فاقت بقسوتها قدرة الاحتمال البشري. سيحتفظ أيضا بصورة خاصة لرمز الاستقلال الأول والثاني علي بن سالم، سيتمنى سهرة ذكريات مع المناضل طارق السوسي، وسيتوقف بخشوع عند العالم الكبير منصف بن سالم.. والقائمة تطول وتشمل أسماء أصبحوا بحكم النضال المشترك زملاء وأصدقاء وأخوة خبز وملح.
رغم الطبيعة التسلطية وغير الكلانية للسلطة التونسية، فإن ممارسة المراقبة الإدارية قد تم كما يلاحظ التقرير: “بصفتها عقوبة تكميلية ذات طبيعة شمولية في سياق فلسفة المعاقبة، وتتميّز بهذه الطبيعة لأنها عقوبة شملت أحقاباً تاريخية متتالية منذ أن أعادت السلطة الإستعمارية تنظيم القانون الجنائي التونسي، فخضع لها رجالات الحركة الوطنية بسبب نضالهم من أجل التحررالوطني وسُلطت على رجال الحركة اليوسفية(الأمانة العامة) لخلافهم مع بورقيبة حول نتائج مفاوضات الاستقلال، وأخضع لها رجال المحاولة الإنقلابية لسنة 1962 بعد سراحهم من السجن سنة 1973، كما شملت المراقبة الإدارية أعداداً من اليساريين والقوميين والإسلاميين إلى سنة 1987 تاريخ رحيل بورقيبة عن السلطة ، ثم اُخضع لها مجدداً الإسلاميون و اليساريون بعد المحاكمات السياسية التي عرفتها تسعينات القرن الماضي، وهي إلى نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة تطال آلافا من الشبان التونسيين ممن شملتهم المحاكمات بموجب قانون 10 ديسمبر 2003 المسمى «قانون مكافحة الإرهاب». وتبرز شمولية المراقبة الإدارية أيضاً في كونها تمنح السلطة التنفيذية سيطرة تامة وشاملة على آليات الحياة الإنسانية ومناشطها وتفاصيل الحياة العامة والخاصة للسجين السياسي”.
نجح محررو التقرير بشكل كبير في تفكيك مفاصل تعسف المراقبة الإدارية وتعريتها كانتهاك جسيم لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، خاصة في المناظرات والمقارنات بين مناهج إعادة التأهيل وتطبيقات المراقبة الإدارية أو العقوبة التكميلية، أيضا، التناظر بين السجن الواقعي والسجن الإفتراضي. ويتملك المرء وهو يطالع هذا العمل، الشعور المزدوج بالألم والإعتزاز. الألم عندما يرى كل هذه الوسائل الجهنمية لهدم الحق في حياة طبيعية يدلل التقرير على كونها منهجية تعمد لإكمال عملية تحطيم سجناء الرأي التي بدأت وراء القضبان. والإعتزاز، بأن حركة حقوق الإنسان تزداد خبرة ووعيا حقوقيا وقدرة على البحث والتدقيق والتوثيق، فيما يسمح بفتح أبواب الوعي الحقوقي المتقدم التي تشمل فيما تشمل، محاسبة المجرمين عن هذه الجرائم بحق الأشخاص والمجتمع.
هيثم مناع
المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان
باريس في 23/2/2010
[1]من تقرير المقيم العام إلى وزارة الشؤون الخارجية B.R 100, C 1711, D 2, F 468 – بتاريخ. 1935 -11-13
تقديم
تتعدد العقوبات القضائية والإجراءات الإدارية التعسفية ذات الطابع السياسي، التي تصدر عن السلطة القضائية أو الأمنية أو السياسية لبلد من البلدان ، وهذه العقوبات تمارسها أجهزة الدولة المختلفة ضد الأفراد أو الجماعات التي تعتقد أنها معادية سياسياً أوثقافياً أوإقتصادياً..، وهي تستمد شرعية وسائلها العقابية تلك من العنف الذي تحتكره الدولة لنفسها لكن حين تنحرف بعض مؤسسات الدولة أوجميعها عن وظائفها وتتغاضى الدولة عن التزاماتها وتعهداتها بإزاء المجتمع فإن القائمين على مؤسساتها سيستخدمون وسائل العقاب تلك، بعد منحها شرعية ما، بغير عدل ولا إنصاف لتصفية حسابهم ضد من يعتقدون أنهم خصوم.
إن الحكم بالسجن ضد الخصوم السياسيين ليس دائماً بنظر سلطة الحكم، الوسيلة الأكثرنجاعة، للتخلص من المعارضين أوممن تعتبرهم الدولة الكليانية « أعداء الداخل»،لأن عقوبة السجن إن سُلطت على فئة على خلفية سياسية أو بسبب الدين أو العرق أو الفكر أو الرأي، ربما حقق ذلك خلاصاً من مشاكسات هؤلاء المعارضين إلى حين، لكن سيُقيّم دائماً زج المعارضين في السجن لخلفياتهم تلك على أنه ممارسة قمعية، وسلب غير مبرر للحرية وهو ما ينحت عن أولائك السجناء، في أذهان عامة الناس،صورة الضحية، وإذا طال سجنهم فستكون صورتهم صورة أبطال وإذا أردَتهم السجون بسبب أمراض المناخات السجنية غير الصحية، أوغيرها فسيصبحون في عيون الناس شهداء المبدأ والرأي والموقف السياسي.
لم يكن السجن إلا عقوبة سالبة لحرية أولائك السجناء، أما إشعاعهم وأفكارهم وقيَمهم ورصيدهم الرمزي لدى أنصارهم فسيستمر في العيش والتأثير في وعي الناس وضمائرهم وستكون محنة سجنهم باعثاٌ قويا على إنتشار فكرتهم بين أنصارهم .وعادة ما يتعاطف المجتمع بمكوناته كلها أومعظمها أو بعضها، على نحو تلقائي مع من قُمع لحق إجتماعي طالب به أو لموقف سياسي إتخذه أو لرأي عبر عنه أو لحق مكفول مارسه، وعليه فإنه لن يكون بإمكان السلطة أن تجد ما يكفي من مبررات لتجعل من محنة سجن خصومها أمراً مشروعاً أومقنعأ ، كما سيظل قرارها مرفوضا في السرّ والعلن، وسيضعها نهجها ذاك بكل حال، لأسباب إنسانية أو إجتماعية أو سياسية أو عقائدية أوغيرها موضع إدانة، وستجيّش مثل تلك القرارات التعسفية مشاعر الغضب في قلوب الناس كلما طال سجن خصومها .
وتدرك سلطة الحكم بموروثها الاستبدادي وبما تراكم لديها من خبرات قمعية أن تأثير خصومها على الرأي العام لا تبدده المحاكمات السياسية ولا تهدره السجون ، وإنما تقويه وتساعد على إنتشاره ، وأن الأحكام بالسجن مهما طالت مددها فستبقي على ذكر السجناء السياسيين في نفوس أنصارهم وإن قصرت فسيُوفرالسراح من السجن فرصة معاودة الدور المناهض للسلطة بصورة أو بأخرى والتموقع مجدداً بين الناس، وفي مفاصل المجتمع.
ولاتحتاج سلطة الحكم إلى السجون وحدها لأجل القضاء على معارضيها بزجهم بين جدرانها،وإنما تحتاج بالأساس إلى إنهاء وجودهم السياسي والاجتماعي.فالمعارضون كما تفهم حقيقتهم السلطة الاستبدادية،« أعداء »لا يستقيم لها أمر بوجودهم، ولا خيار لضمان سلامة وجودها إلا بنفي وجودهم وإستئصالهم.لذلك تلجأ سلطة الحكم الكلياني إلى إبتداع وسائل للعقاب في حق خصومها تحقق بها معنى الإستئصال وذلك عبرالنفي وحجر الإقامة والإبعاد والمراقبة، وهي جميعها عقوبات تردف عقوبة السجن وتكمّلها.
وعلى الرغم من أن التشريعات الجنائية تصفُ تلك العقوبات بأنّها” تكميلية ” وليست عقوبات أصلية، إلا أن ما تحققه من نتائج، وما تخلّفه من آثار و ما يصحبها من تجاوزات خطيرة على المساجين السياسيين وعائلاتهم ، بالمقارنة مع عقوبة السجن ونتائجها ، يجعل من تلك العقوبات التكميلية(نفي ، إبعاد ،جبر إقامة، حجر إقامة ، مراقبة إدارية ) تقوم في حقيقة الأمر مقام العقوبة الأصلية بل هي أشد قسوة و أبلغ أثراً. ذلك أن هذه العقوبات التكميلية، تعمل على استئصال الخاصية الاجتماعية والسياسية للسجين السياسي فور سراحه، فتنتزعه من بين الناس، وتنشر عقابه بينهم ليكون عظة لمن لم تبلغه الموعظة.
والمراقبة الإدارية،التي يتعرض لبحث موضوعها هذا التقرير تعد شكلاً من أشكال العقاب الذي يندرج ضمن أصناف الإبعاد السياسي وهو على قسمين أساسيين:
1- الإبعاد الإداري
2- الإبعاد القضائي
وأياً كان هذا الإبعاد قضائياً أو إدارياً فإن كليهما يؤديان وظيفة واحدة هي العزل في الداخل أو العزل إلى الخارج ذلك أن كل صنف من صنفي الإبعاد يتفرع إلى إبعاد داخلي وآخر خارجي.
المراقبة الإدارية : هي صنف من صنفي الإبعاد القضائي الداخلي وتتمثل في إجبار الشخص على الإقامة بمنطقة معينة تحددها السلطة التنفيذية بعد إنقضاء مدة سجنه ولا يمكن له أن يغيّرها إلا بإذن من الإدارة كما لا يمكن له مغادرة تلك المنطقة إلا بترخيص ويَخضع السجين المسرّح لمراقبة الإدارة بشكل يومي إذ يتوجّب عليه وفق إجتهاد السلطة التنفيذية التوقيع على دفتر خاص في غالب الأمر لدى مركز الأمن الذي يعود إليه بالنظر.
أما تحجير الإقامة : فهي الصنف الثاني من الإبعاد القضائي الداخلي وتتمثل في منع المحكوم عليه من الدخول أو الجولان أو الإقامة أو الاستيطان بالمنطقة التي تعينها المحكمة وتأتي هذه العقوبة بهدف تجميد حركة الأفراد أو المجموعات أو تحييدها أو الضغط عليها وصولاً لإلغائها والإنفراد بالسلطة.
أضف تعليق